Blog
الموضة الخليجية: من حياكة التراث إلى سياحة الجمال العالمية
بقلم هدى الشريف
في أزقة “حي الفهيدي” العتيق بدبي، حيث تتعانق روائح العود مع همسات النول الخشبي، لم تعد إبرة الخياطة أداةً للكساء فقط، بل تحوّلت إلى ريشة فنان ترسم خريطة سياحية جديدة. فالأزياء الخليجية والعطور الأصيلة، التي ظلت لقرون حِكراً على الموروث العائلي، تشهد اليوم نهضةً غير مسبوقة تضعها في قلب الاقتصاد الإبداعي. ففي عام 2024 وحده، اجتذبت تجارب الموضة التراثية في الإمارات 1.7 مليون سائح، مسجلة نمواً بنسبة 22% عن العام السابق، وفقاً لتقرير دائرة السياحة بدبي.
تتجلّى عبقرية التحوّل في مشاريع رائدة مثل “متحف العطور” بدبي، الذي حوّل رحلة الشمّ إلى سردية تفاعلية تختزل 5,000 عام من التاريخ العطري. هنا، لا يكتفي الزائر بشمّ “المِسك الأزرق” النادر، بل يشارك في ورشة “توليف العطور” ليكون هذا التجسيد الحسي سبباً في ارتفاع صادرات العطور الإماراتية 30% منذ افتتاحه. وفي الشارقة، يحكي “متحف الزي الإماراتي” حكاية القماش بلسان التكنولوجيا، حيث تعرض تقنيات الواقع المعزّز تحولات “الكندورة” من لباس عملي إلى تحفة فنية، مدعومة بورش حية لصناعة “التلي” الفضّي الذي أدرجته اليونسكو في قائمة التراث اللامادي.
لم تكن هذه النهضة محض صدفة، بل ثمرة رؤية إستراتيجية تجسّدت في “استراتيجية دبي للتصميم والأزياء 2025″، التي حوّلت الفعاليات إلى مغناطيس سياحي. فـ “أسبوع دبي للموضة” – تحت رعاية سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة هيئة الثقافة والفنون في دبي– لم يعد مجرد عرض أزياء، بل مهرجاناً ثقافياً حقق 94% إشغالاً فنادقياً في نسخته الأخيرة، فيما حوّل “مهرجان البخور” في أبوظبي المدينة إلى عاصمة عالمية للعطور، بتنافس 120 عارضاً من 40 دولة.
أما في المملكة العربية السعودية، فتشهد مزارع ورد الطائف تحوّلاً مماثلاً، حيث تدمج “سياقة الورد” مع متحف العطور الوردية في تجربة متكاملة، بينما تعيد “سوق عكاظ” إحياء حرف “السدو” عبر عروض حية تروي حكاية الخيوط والصحراء. وفي سلطنة عُمان، يقدم مهرجان “خريف صلالة” ورش تطريز “الفضّة الظفارية” كفعاليات أدائية تجذب 150 ألف زائر سنوياً.
لكن التحدي الأكبر يتمثل في حماية الهوية من التشويه التجاري، وهو ما واجهته الإمارات ببراعة عبر إطلاق شهادة “أصلي إماراتي” التي تمنحها هيئة الثقافة بأبوظبي، لضمان ارتباط المنتجات السياحية بالهوية المحلية. وقد أثمر هذا النهج عن ارتفاع مبيعات الحرف اليدوية الأصيلة 45% في أسواق “مربّع الفن” بالشارقة، وفقاً لبيانات 2024.
إن الموضة الخليجية لم تكن مجرد إرث في المتاحف، بل صارت لغةً سياحية عالمية تروي بسحر خاص قصة تراث حي ينبض بالحياة. والإمارات – بجسرها الواصل بين الأصالة والابتكار– تثبت أن “العباءة” يمكن أن تكون بطاقة دعوة للعالم، وأن رائحة “البخور” قادرة على جذب الملايين، محققةً بذلك معادلة فريدة: حين يصبح الجمال وجهةً والسياحة فنّاً.